تُواجه أي جماعة تنشد التغيير عقبات دونها أهوال، ولحظات ميلاد عسيرة؛ لأنها تكون نواة ميلاد الدولة الجديدة؛ ولأنها تُمثل ثورة على الواقع، ومن ثم فإنَّ أمامها تحديات كثيرة.
ويتحدد موقف المسلم من كل جماعة تغيير، طبقاً لمجموعة من الثوابت، وهي:
ـ الإيمان بالله ورسوله، ونصرة دينه وكتابه.
ـ الانتصار للأمة المسلمة.
ـ جهاد ودفع عدوان أعداء الأمة المسلمة (خاصة يهود) ومن نصرهم، وعدم موالاتهم.
ـ التحاكم إلى ما أنزل الله، وعدم تحول جماعة التغيير إلى “جماعة وظيفية” تخدم أجندات أعداء الأمة.
ـ عدم استباحة دماء المسلمين، والحفاظ على وحدة الأمة.
ـ الترحيب بحرية إنكار المنكر، وقبول النصح، وعدم التبرير للباطل… إلخ، فهذا دليل الإخلاص لله سبحانه.
هذه المجموعة من الثوابت ـ وهي بالأساس “الإيمان والمبادئ الأخلاقية” ـ تُعبر عن اقتضاء جماعة التغيير الصراط المستقيم، وغياب واحدة منها هو انحراف عن هذا الصراط، ومتى التزمت حركة بهذه الثوابت فحق على كل مسلم أن ينصرها، ويباركها، ويدعمها، ويكون ظهيراً لها، بقدر ما تتمسك بهذه الثوابت، وتعمل بها.
أما مجموعة المتغيرات فهي:
ـ التحالف السياسي.
ـ الدعم المادي.
ـ تقاطع المصالح.
ـ الرسالة الإعلامية.
هذه المجموعة من المتغيرات التي تختلف من واقع إلى آخر، ومتى حظيت مجموعة التغيير بالشرعية الربانية من خلال الثوابت المذكورة أعلاه، فلا بد من النظر السياسي لهذه المتغيرات طبقاً لظروف الزمان والمكان والملابسات والأحوال، ولا تُعتبر هذه المتغيرات موازين للحكم إلا من خلال سياقها وشروطها الخاصة.. لأنها تختلف من حالة إلى أخرى، ومن زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، وما يكون جائزاً في مكان وزمان لا يكون جائزاً في آخر، والذي يحدد ذلك هو: شرط “الضرورة، والاضطرار”، و”دفع المفسدة” حسب الوسع والطاقة، و”دفع الخطر الأكبر، والأقرب”، وترتيب الأولويات طبقاً للحالة الواقعية..
فـ التحالف السياسي:
لا بد لشرعية التحالف السياسي أن تكون لجماعة التغيير “شرعية ربانية” ـ كما أسلفنا ـ بمعنى أنها تقوم بمهمة ربانية؛ ومن أجل تحقيق غاية إسلامية؛ وتدافع عن الأمة المسلمة، بشرط أن لا تضر غيرها من مكونات الأمة..
وقد دخل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حلف مع قبيلة بني قريظة من يهود، للدفاع عن الدولة من الأخطار المشتركة التي تطال الجميع، ولكنهم خانوا العهد، ونقضوا الوثيقة، وتحالفوا مع قريش للقضاء على الإسلام في “غزوة الخندق”، ومن ثم كان عقابهم شديد، ونهايتهم وخيمة..
ولقد تحالف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً مع قبيلة خُزاعة في صلح الحديبية، وهي قبيلة مُشركة، بل تم فتح مكة العظيم بسبب اعتداء حلف قريش على هذه القبيلة المشركة! ومن ثم اُعتبر هذا الاعتداء نقضاً للعهد، فكان فتح مكة..
ونلحظ في هذا التحالف: أنه كان تحالفاً على البر والتقوى، وليس على الإثم والعدوان، وإنَّ هذا التحالف لم يبارك شرك قبيلة خزاعة ـ والعياذ بالله ـ بل كان حلفاً على الدفاع والمصالح المشتركة، طبقاً للظرف السياسي الحاصل، ولم يشترط النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينها على هذه القبيلة الدخول في الإسلام حتى يكون الحلف، ولو دخلت ما كان هناك حلفاً من الأساس.. بل كان هناك الطاعة والاتباع للرسول.
هذا الظرف يُقدر بقدره في وقت كانت قريش تُعد عدتها، وتحشد قوتها، وتحالفاتها في الجزيرة كلها للقضاء على الإسلام وأهله..
وهذا الظرف تغير بفتح مكة العظيم، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ولما تمكن الإسلام، وعلت راية التوحيد، لم يعد للشِرك شرعية سياسية، ووجود اجتماعي في الجزيرة العربية ـ مهد الإسلام وقاعدة انطلاقه ـ فجاء الأمر الإلهي بالبراءة من الشرك والمشركين، وإمهالهم عهودهم إلى مدتهم كما جاء في أوائل سورة التوبة.
إذن السياسة الإسلامية كانت تراعي المكونات السياسية والاجتماعية القائمة في بيئتها، وكانت تحاول أن تكسب للإسلام أرضية، ونقاط جديدة، وتُحيد من الأعداء ما تستطيع، وتحالف ما تستطيع.. دون التنازل عن الثوابت، أو مباركة الباطل، أو مداهنة الشرك، أو جلب مضرة على مسلم، بل كانت عقيدته ناصعة، وراية الإيمان، والجهاد في سبيل الله وحده خفاقة.. والمضي في سبيل الله بكل حرية واستقلالية دون التنازل عن مبدأ، أو دون القعود عن الحركة بحجة نجاسة الواقع! أو استحالة التغيير.
الدعم المادي:
جماعات التغيير في الواقع السياسي يكون لها أصدقاء وأعداء، بحكم التعقيدات السياسية، والتوازنات الدولية، وهذه الصداقة والعداوة في الغالب تكون قائمة على “البراجماتية ـ النفعية” السياسية، أو “الدعم الأيديولوجي” أو “الإيمان بعدالة قضية ما” فيأتيها الدعم المادي من هؤلاء الأصدقاء، كما تتلقى الضربات من الأعداء لأسباب معاكسة لأسباب الصداقة..
هذا الدعم المادي قد يكون نعمة، وقد يكون نقمة.. يكون “نعمة” عندما يكون دعماً غير مشروط بشروط تضرب الثوابت، وعندما لا يُفسد القلوب؛ ويجعلها تركن إلى الدنيا ومتاعها، وعندما يُوظف الدعم التوظيف الصحيح بلا سفه أو إسراف..
ويكون “نقمة” عندما يتم شراء الجماعة بهذا المال، أو تدمير ثوابتها، أو توظيفها لأغراض غير شرعية، وغير ما قامت من أجله، وعندما يخترقها الداعم ليسيطر عليها..
والأفضل لكل جماعة تغيير أن يكون تمويلها ذاتياً حراً من كل قيد أو شرط؛ حتى تضمن طاهرة ضمائرها وقلوبها من أي إفساد، وعندما تعجز فلا بد أن يخرق شيئاً من الثوابت.
فأي دعم مشروط بظلم أو عدوان، أو ارتهان وتبعية فهو مرفوض.. وأي دعم خالص لا يأتِ على حساب الدين، والحقوق، والمبادئ، والاستقلالية، ويُساعد في دفع العدوان على الدين والأمة، فهو مشكور ومقبول.
تقاطع المصالح:
كل حركة سياسية لا بد وأن تتقاطع مصالحها ـ في الغالب ـ مع كيان سياسي آخر، وعندما يقع هذا التقاطع.. يحصل نوعاً من التوافق والدعم، فمثلاً: كان من مصلحة أمريكا انتصار المجاهدين في أفغانستان عند الغزو السوفيتي لها.. فكان دحر العدو السوفيتي ـ حينها ـ تقاطع بين أمريكا والمجاهدين، حث هذا التقاطع أن يدفع الطرف الأمريكي لإعانة المجاهدين على الغزو السوفيتي بصور مختلفة، ولكن هذا التقاطع في المصالح لا يعني نوعاً من الولاء بين أمريكا والمجاهدين، ولا يعني أن المجاهدين يعملون للطرف الأمريكي ـ كما صور بعض المُخذِلين والمُفشلين لهم ـ بل على العكس لقد كان هذا الظرف في هذا التوقيت اقتضى هذا الدعم وهذا التقاطع في المصالح، ثم بعد اندحار العدو السوفيتي تحولت أمريكا لحرب المجاهدين في أطول حرب في تاريخها كلفتها حوالي (6) تريليون دولار، ثم انسحبت في النهاية، وقد رفعتهم أمريكا من على قوائم الإرهاب وجلست للتفاوض معهم نداً لند! لأنهم ثبتوا وانتصروا وكان لهم من القوة التي مكنتهم من البقاء..
فالسياسة تتعامل مع المعطيات التي أمامها، وتختار طبقاً لما هو متاح لديها في اللحظة الحاضرة، أما “التفكير الاستراتيجي” فهو الذي يحاول استشراف المستقبل وصنعه، والميل به نحو المصلحة المتوقعة.
فهل في مرحلة التقاطع هذه.. مرحلة الدعم الأمريكي ـ عن طريق باكستان والسعودية ـ يمكن أن نقول للمجاهدين: لا تأخذوا السلاح من أمريكا، فإنها العدو الأول، أو إنها قتلت في بلدان أخرى الكثير والكثير من المسلمين؟ بالطبع لا، لأن حركات التغيير ـ كطالبان في مثالنا هذا ـ تكون في ظروف مستحيلة، ولا خيار أمامها سوى الاستسلام! والمقاومة والجهاد يكاد يكون هو الخيار المستحيل، ومع ذلك تمضي فيه ـ على بركة الله ـ ولا يأتيها أي دعم من أي مكان إلا قليلا، فالمسلمون محاصرون في بلادهم، لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، وهم بحاجة لمن يُحررهم أولاً، ولربما طمعوا أن تأتي حركات التغيير إليهم لتكسر قيودهم! فمن يُنتظر منه الدعم، هو الذي يَنتظر الدعم! ولا حول ولا قوة إلا بالله..
في هذه الحالة قبول السلاح، وغيره من وسائل الدعم.. ليس ترفاً، ولا اختياراً، بل هو نعمة من الله، ليمضي قطار التغيير في مساره لا يتوقف.. ولكن إذا تحول هذا التقاطع إلى موالاة ونصرة الكفر واعتداء على فريق بريء من الأمة المسلمة، فهذا هو الخطر الأكبر، وفي نظر الإسلام يُعتبر عملاً من أعمال الكفر.. والعياذ بالله.
فتقاطع المصالح لا يعني تنفيذ خطة العدو، ولا يعني العمل عند العدو، ولا يعني بيع الحركة للعدو.. إنه تقاطع ظرفي وقتي، يُقدر في حينه حسب المصلحة والمفسدة، والمصلحة: نصرة الإسلام، والدفاع عن المسلمين، ودفع صائل العدو القريب الداهم. والمفسدة: خذلان الإسلام، وتسليم المسلمين لأعدائهم، ومظاهرتهم على إخوانهم.
فهذه المرونة السياسية، ليست عبثاً، ولا هوى.. بل مرونة حركية، ضمن الإطار الذي يسمح به الإسلام، ولا يتعداه، فحركة المسلم محكومة بثوابت لا يمكن تعدي حدودها، وإلا فقدت الحركة شرعيتها، وفقدت قبل ذلك ولاية الله، ونصرته.
الرسالة الإعلامية:
لكل حركة تغيير شرعية.. خطابها الإيماني الأخلاقي الذي يجب عدم التنازل عنه لأنه ثابت من الثوابت الذي لا معنى لوجود الحركة بدونه.. وأما الخطاب السياسي فإنه يتحلى باللياقة والمرونة، ومراعاة الظروف الواقعية، ومراعاة اللغة المناسبة، وليس من مصلحة أي حركة تغيير ـ وهي تتحسس طريقها وسط حقول الألغام في كل كان ـ وتريد أن تعبر سالمة إلى أرضية جديدة.. أن يكون خطابها خطاباً معادياً للجميع، ويتوعد الجميع بالويل والثبور، بل قد تجد نفسها مضطرة لاستخدام اللغة الدارجة في عصرها؛ حتى تتفادى الأفخاخ المنصوبة لها في كل مكان، وقد كان من سياسة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحييد الأعداء قدر المستطاع، وتَخذيلهم عن التوحد ضد المسلمين قدر الإمكان، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنعيم بن مسعود في غزوة الخندق: “خَذِّلْ عَنَّا” لتفكيك اتحاد الأحزاب على المسلمين.
ويجب ونحن ننظر لحركات التغيير التركيز على خطابها الإيماني الأخلاقي، وثوابتها، ونتائجها العامة الواقعية، وإطارها الكلي العام، دون التوقف عند مفردات كل كلمة من خطابها السياسي الذي ربما يكون مُغلفاً ببعض المدارة أو المداهنة أو اللغة الدبلوماسية الدارجة.. فلا نختار كلمة من هنا، وموقف من هناك؛ لنتخذ من تلك المفردات وسيلة للتفشيل والتخذيل والطعن والتشكيك لحركة التغيير ذاتها، وقد ينسحب هذا الأمر على كل حركات التغيير، فنصل إلى العدمية الحركية والسياسية والعياذ بالله.
فمعرفة الثوابت والمتغيرات يضع خارطة طريق راشدة لحركات التغيير، والتمسك بالثوابت، والمرونة الإيجابية مع المتغيرات يضمن ـ بإذن الله ـ بقاء الحركة ونجاحها إذا تمسكت بسنن الله، وأحسنت قراءة الواقع، ودفعت بالأفضل إخلاصاً لله، ونصرة لدينه، ودفاعاً عن أمته.
***
Be the first to write a comment.