بعد أن تعرفنا إلى أهمية البدء في التربية بغرس العقيدة , واطلعنا على مدار حلقتين من سلسلتنا على الوسائل التربوية المناسبة والنافعة في رحلتنا لغرس العقيدة ..يحين الآن موعد الإجابة عن السؤال الهام؟ ماذا نغرس؟ ماهي موضوعات الغراس العقدي؟
موضوعات الغراس العقدي هي نفسها موضوعات علم العقيدة, والتي سردها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان فقال رسول الله
“أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ وتؤمن بالقدر خيره وشره”(صحيح مسلم)
إذن فموضوعات علم العقيدة هي أركان الإيمان الستة. بالإضافة إلى موضوعات عقدية هامة مثل الإيمان بوجود الجن والشياطين, والعقيدة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وغيرها .
أولَاـ -الإيمان بالله عز وجل:
يقول الله تعالى :”فاعلم أنه لا إله إلا الله” (محمد) .والإيمان بالله عز وجل هو أصل الإيمان وعليه تنبني أركان الاعتقاد كافة.
ترتفع النداءات مؤخرًا بتأخير عرض الأفكار الغيبية حتى يبلغ الطفل عشر سنوات, استنادًا على صعوبة تصور الطفل للغيبيات واختلاط الحقائق المادية عنده بالخيال.
إلا أني لا أتفق مع تلك النداءات: فالله عز وجل خلق أطفالنا بفطرة تعرفه وتأنس إليه (كل مولود يولد على الفطرة) ودوري هنا كمرب هو تعزيز هذه الفطرة وحمايتها.
إذن حديثي عن الله عز وجل مع الطفل لن يكون مستغربًا على عقله وقلبه, وتأجيل هذا الأمر حتى يبلغ العاشرة والسابعة مما يوقع في الحرج إذ كيف آمره بأداء الصلاة والتدريب على الصيام والطاعة لإله لم أحدثه عنه قط, وحينها يقع الطفل في مشكلة فتتحرك جوارحه بطاعات وقلبه عاجز عن تفسيرها. ويزيد الأمر غرابة عندما نعرض على الطفل أفلام الكارتون والقصص المغرقة في الخيال التي تتحدث فيها الحيوانات والجمادات وترتدي الملابس وتطير بلا أجنحة ثم أخشى عليه من الحديث عن الله والغيب والدار الآخرة.
الحق أن هذا التوجه لا يدعم الفطرة بل يشوهها, فأملا قلب الطفل وعقله بأساطير وخيالات متوهمة, وأخجل أن أملأ قلبه وعقله بالصحيح من القرآن والسنة والله عز وجل يقول :” كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ” 0الأعراف:2)
حديثي مع الطفل عن الله هو حديث عن ربه وخالقه؛ لن أتحدث عن مفهوم بعيد عن فطرته, غريب عليه .
والإيمان بالله ينقسم إلى أربعة موضوعات رئيسية:
الإيمان بوجود الله.
وقد تكاثرت على ذلك الأدلة العقلية والنقلية وتنوعت الاستدلالات المنطقية لتثبت وجود الله عز وجل. ونحن في هذا لا نعرض على الطفل هذه الاستدلالات المنطقية, بل يحتاج المربي أن يعرفها ويبني على معرفته بها.
ومن أشهر هذه الاستدلالات ما يعرف بدليل الفطرة ؛ وهو دليل منطقي له أوجه عدة ليس هنا موضع استقصائها وحصرها, يكفيني منها أن أتعلم كيف ألفت انتباه الطفل لهذه الفطرة..كيف أناقشه وأعرض عليه أسئلتي وأنتظر جوابه…كيف يسارع أخيه الصغير بالتقام ثدي أمه ليرضع وهو لا يعرف أن هذا الشعور الذي يشعر به هو :الجوع, وأن هذه الحاجة للطعام تشبع بهذه الصورة, من درب أخيك على ذلك؟
عندما أحكي له قصة دجاجة هربت من الثعلب ألفت انتباهه كيف عرفت الدجاجة أن الثعلب قاضٍ عليها وأن في القرب منه هلاكها.وهكذا..
ويعد الاستدلال المنطقي المشهور باسم دليل الخلق والإيجاد من أهم هذه الأدلة المنطقية على وجود الله , وهو دليل قائم على السببية وأن لكل حادث محدث. هذا الكون حادث لم يكن موجودًا ثم وُجد ولابد لهذا الخلق من خالق. وهو ما استدل به الأعرابي قديمًا حين قال :” “البَعرةُ تدل على البعير، والأثَر يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟!”(البيان والتبيين-الجاحظ) وأكرر أننا لن نعرض على الطفل هذا الاستدلال بصورته المنطقية, بل بضرب الأمثلة من خلاله فنلفت انتباه الطفل لبديع خلق الله, وأعرض عليه السؤال من خلق النجوم في السماء؟ من خلق مياه البحر الواسع؟ من خلق أنفك الجميل الدقيق؟ .
الاستدلال الأخير الذي نستعرضه اليوم هو دليل الإتقان وهو قائم على استدلال منطقي بأن هذا الكون متقن الصنع إذن يلزم أن يكون لهذا الكون خالق عليم حكيم قادر.
ويمكن عرض هذه الفكرة على الطفل من خلال الحديث عن العلوم الطبيعية ..الأحياء, وهناك الكثير من الموسوعات العلمية المخصصة للأطفال والتي تعرض بديع صنع الله في خلق الإنسان وحركته وغذاءه, يمكن أيضًا الاستعانة بالكتاب الشهير (غريزة أم تقدير إلهي) وكذلك الوثائقيات التي تعرض حياة الحيوانات في الغابات والأسماك في المحيطات- مع التنبيه على اعتماد مثل هذه البرامج على المذهب الطبيعي فيقولون أن الطبيعة منحت ووهبت وساعدت, والحق أنه الله عز وجل.
أدلة وجود الله عز وجل يفيض بها كتاب الله كما يفيض بها كتاب الكون المفتوح, وعرض فكرة وجود الله على الطفل ليست غريبة ولا عسيرة تحتاج استعانة بالله وتحتاج من المربي أن يضع دائمًا هدفه نصب عينيه.
الإيمان بتوحيد الألوهية: وهو توحيد العبادة.
والطفل في سني عمره الأولى غير مطالب بأداء العبادات وإن كانت تقبل منه حسناته ويكتب أجرها له ولوالديه, كما في حديث الخثعمية : رفعت امرأة صبياً فقالت يا رسول الله الهذا حج قال : ” نعم ولك أجر . ” (صحيح مسلم)
وفي الطفولة المبكرة ينزع الأطفا ل دائمًا إلى تقليد الكبار, فتلبس الصغيرة حجاب أمها, ويقف الصبي في المصلى إلى جوا رأبيه , وهذه السلوكيات من الأطفا ل نحتاج أن نشجعهم عليها فنبش لهم ونقبلهم إن فعلوها,-لا كما يفعل بعض الآباء بدفع الطفل وإبعاده عن المصلى.
وها نحتاج أن نؤكد أننا المرآة التي يرى فيها الطفل ما ينبغي أن يفعله, تمامًا كما أنهم المرآة الذي نرى فيه حقيقة طباعنا وسلوكنا.
فالطفل الذي يرى أمه تتلقى اتصالًا مزعجًا ثم تبكي وتسترجع وتلجأ إلى الله سيفعل مثلها إن شاء الله إن وقع في بلاء, والطفلة التي ترى حرص والدتها على التستر في مجالس الرجال سينزرع في قلبها حب العفاف والتستر.
ويبدأ أمر الطفل بعبادة الصلاة كتدريب عليها من عمر سبع سنوات –هجرية.
وليست القدوة هي السبيل الوحيد لغرس العقيدة في أطفالنا بالطبع هناك عدة وسائل يمكن مراجعتها في المقالين السابقين من نفس السلسة.
ولكن هذا لا يمنع أهمية القدوة في أن يراني طفلي عابدة مصلية صائمة, أستعين بالله وأخاف مكره وأحبه وأستعيذ به وغيرها من عبادات الجوارح والقلب.
أعلم طفلي كما علم الرسول صىلى الله عليه وسلم ابن عباس”إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله” ..
تريد حلوى؟ اطلبها من الله…تريد الخروج للنزهة ؟لندعو الله أن يرزق بابا الوقت والمال فيوافق؟ والدعاء والذكر من أول العبادات التي يجب على المربي أن يهتم بزرعها في قلب الطفل.
أدعوه ليقرأ معي القرآن ولا بأس من عقد مجلس أسبوعي نتدارس فيه تفسير القرآن لأربط قلبه وعقله بمجالس القرآن.
الإيمان بتوحيد الربوبية : وهو توحيد الله بأفعال الله من خلق ورزق وتدبير وإحياء وإماتة.
والطفل يحتاج أن يقر بربوبية الله,فيذكره المربي دائمًا بنعم الله التي أسبغها عليه من طعام وحلوى ولعب, وينشيء معه حوارًا دائمًا عن أصل الأشياء؛ ماذا كانت التفاحة قبل أن تكون تفاحة باردة نظيفة؟ من أين جاءت؟ كيف ساقها الله إلينا؟ وسخر لنا مزارعًا في بلاد بعيدة يضع بذرتها في الأرض ويعتني بها إلى أن نضجت ثم سخر الله تاجرًا وسفينة وعامل في الميناء وبائع في سوق بلدتنا؟ أتعلم أن هذه التفاحة كتبها الله من نصيبك قبل أن تخلق؟ لأنه الواسع الرزاق العليم.
أعلم طفلي حقيقة نفسه وكيف أنه عبد مربوب مملوك لله لا يملك من أمر نفسه شيئًا, ولا يمكنه الخروج عن شرع الله ودينه.
أعلمه كيف أنه محتاج لله الصمد في كل خطوة يخطوها , أعلمه كيف يستعين بالله ويتوكل عليه ويطلب منه ويلح في الطلب ويعلم أن تحقق طلبه بامر الله إن شاء أنفذه وإن شاء سبحانه بعلمه وحكمته منعه.
الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات
وهو توحيد الله بأسماءه الحسنى وصفاته العلى التي وصف الله بها نفسه في كتابه أو جاءت على لسان رسوله.
ونحتاج هنا ان توقف مع الطفل في كل حركة وسكنة لأعبده لله عز وجل بأسماءه وصفاته, فعندما يطلب أقول له نسأ الله الرزاق أن يعطينا, وعندما يمرض أرقيه باسم الله الشافي, وعندما يفزع أطمنئه باسم الله المؤمن. وهذا يحتاج من المربي نفسه أن يمتليء قلبه بمعاني أسماء الله ودلالتها ليفيض لسانه بها في حديثه دون كلفة .
كما نحتاج أن نعلم الطفل أن الله “ليس كمثله شيء” فإن سأل عن عين الله هل له عين سبحانه؟ نقول نعم ولكن ليست كأعيننا , وإن سأل عن يد الله نقول نعم ولكن ليست كأيدينا. فالله سبحانه عظيم جدًا لا تقدر عقولنا الصغيرة القاصرة على الإحاطة بعظمته وحسنه
نتوقف هنا مع الركن الأول من أركان الإيمان لنستكمل إن شاء الله في لقاءات قادمة باقي أركان الإيمان وكيفية غرسها في قلب الطفل.
Be the first to write a comment.