الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد.
إن المتفكر في موقف سيدنا هود عليه السلام وقوته وجرأته في مواجهة قومه، واستعلائه عليهم حين يقول لهم: ((قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)) [هود: 54، 55].
وقد وقف أمامهم وحيدًا مستضعفًا، وهم من عُرِفوا بقوتهم وجبروتهم ((فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)) [فصلت: 15]، ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)) [الأعراف: 69]، ((وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)) [الشعراء: 130].
إذن فمن أين أتى هود عليه السلام بهذه القوة وذلك الاستعلاء في مواجهته لهم؟! ولِمَ تلك الجرأة في الرد دون خوف من بطش أو عقاب؟!
وتأتى الآية التي تليها لترد على ذلك التساؤل ((إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [هود: 56]، إنه يحمل شيئًا في قلبه، يرى معه كل متكبر حقيرًا، وكل متغطرس ذليلاً، إنه يحمل عقيدة منشؤها من عند سدرة المنتهى؛ فناسب استعلاؤه بها ذلك المنشأ وعلا بعلوها، وهي من تحت عرش الرحمن.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الكرسي بقوله: “يَا أَبَا ذَرّ، مَا السَّماواتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأرْضٍ فَلاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كفضل الْفَلاَةِ عَلَى الْحَلْقَةِ” [أخرجه ابن أبي شيبة في “العرش” (58) واللفظ له، وابن حبان (361)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/167) مطولاً، وصححه الألباني في تعليقه على الطحاوية (36)].
وما أجمل استشهاد ابن القيم في صواعقه المرسلة حيث قال: “وقد أخبر النبي أن السماوات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، وهو سبحانه فوق عرشه، يرى ما عباده عليه، فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدقين العارفين به سبحانه” ا ه.
فأي غبي حقير يقف أمام تلك العقيدة؟! ثم إن الله اختار لحمل هذه العقيدة أقوى ملائكته (جبريل عليه السلام) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف جبريل بقوله: “رأيت جبريل وله ستَمائةَ جِناح” [متفق عليه]، وفى رواية عند الترمذي: “له ستمائة جناح قد سد الأفق“، فناسبت قوة نبينا هود عليه السلام في مواجهته لقومه بعقيدته قوة حاملها، فاستقر في قلبه أن هؤلاء الأذلاء لا يقدرون على شيء إلا ما قدره الله، ولذلك استأنف رده عليهم بأنه ((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا))، فليزيدوا من تهديدهم ووعيدهم، فما من دابة إلا والله آخذ بناصيتها، وليتمادوا في أساليب الضغط والقهر، فما من دابة إلا والله آخذ بناصيتها، ولتعلو أصوات التشويه والتشنيع ((إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ))، فما من دابة إلا والله آخذ بناصيتها.. إن ربى على صراط مستقيم..
إشعار بالثبات والاستقامة على هذه العقيدة الراسخة؛ فهي ممتدة إلى آخر الزمان، وتمسكه بها لا يتغير بتغير الأحوال والظروف، فلن يتعلل بظروف سياسية تجعله يهادن في عقيدته، ولن تضطره ظروف اجتماعية لأن يقول: ليس هذا وقتها، فالاستقامة والثبات ما دامت هذه العقيدة إلى نهاية الزمان.
وعلى العكس من فكرة الترهيب التي استخدمها قوم هود عليه السلام مع نبيهم كانت فكرة الترغيب في تعامل قوم صالح عليه السلام مع نبيهم حين واجههم بعقيدته: ((قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا)) [هود:62]، محاولة لاستمالته بأن له مكانة بين قومه، وبأنه صاحب رأى وكلمة بينهم، وإشباعًا لغروره حسب ظنهم، حاشاه ذلك! بأنه قائد عظيم، فينشرح صدره بذلك المكسب، ويتغاضى عما يحمله في قلبه من عقيدة.
ذلك الأسلوب الذي طالما استخدمه أعداء الحركة الإسلامية للنيل من قادتها، وقد وقع في شراك ذلك الأسلوب بعض كبار قيادات الجماعات الاسلامية في سجون مصر في السنوات الأخيرة، فهذا هو مسئول الزيارات في السجون، وذلك المتحدث الرسمي باسم الجماعة الفلانية، والآخر مطلوب للتفاوض معه، إلى آخر تلك الأساليب التي تشبع روح القيادة عند الفرد، وهذا الأسلوب المدغدغ للمشاعر متوقع أيضًا في الفترة القادمة في مفاوضات رأس الكفر أمريكا وتعاملها مع قيادات التيارات الإسلامية، خاصة بعد اكتساح تلك التيارات للساحة السياسية، فلم يعد هناك مجال لاستخدام أسلوب الترهيب..
إلا أن سيدنا صالحًا عليه السلام فهم أنه إن استجاب ومال لرغبات النفس، وانقاد وراء ذلك الجذب الحسي، فقد انقطعت صلته بمنشأ العقيدة، وانقطعت صلته بالسماء، وبقي رهن ذاته يشبع رغبته بالمدح والثناء فيخسر عقيدته، ويخسر نفسه معها.
يخسر عقيدته لتنازله عنها، ويخسر نفسه لأنه لا يلبث بعد قليل أن يجد نفسه كورقة استنفذ الغرض منها بعد أن أدت دورها في خيانة الدعوة، بالطبع حاشاه ذلك، ومن ثم فلن يستمر المدح طويلاً، ولن ينشرح صدره بالثناء طويلاً، فيرجع إلى نفسه مذمومًا مخذولاً..
ولذلك كان جوابه عليه السلام لهم ((فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)) [هود: 63]، وهكذا فإن العبد وإن كان نبيًا مرسلاً، فإنه محتاج إلى حماية ربه من مهده وتكليفه الشرعي إلى لحده، فصاحب الدعوة لا يكل نفسه إلى نفسه، وإلا سلط الله عليه النفس ورغباتها التي لا تنتهي، ولذلك كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: ” يا حيُّ يا قيُّومُ برحمتِك أستغيثُ، أَصلِحْ لي شأني كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عَيْنٍ” [أخرجه النسائي في “السنن الكبرى” (10405)، والبزار (6368)، وابن السني في “عمل اليوم والليلة” (48)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (661) ].
وفى اتجاه ثالث نجد رد فعل أهل مدين مع نبيهم شعيب عليه السلام هو محاولة تشويه صورته وإظهاره بمظهر من لا يعي ما يقول: ((قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ)) [هود: 91].
والتقليل من شأنه أمام الناس: ((وإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا)) [هود: 91].
وهي صورة أخرى من صور مقاومة الجاهلية لأهل الحق، يقول فيها الشيخ رفاعي سرور رحمه الله: “تحاول الجاهلية النيل من أصحاب الدعوة وتشويه صورتهم إذا ما عجزت عن المناظرة الفكرية لها”.
تلك الصورة التي كانت واضحة جلية في عصرنا الحالي، حين حاول الإعلام مرارًا وتكرارًا إظهار أبناء التيار الإسلامي في الأفلام والمسلسلات وعبر البرامج على أنهم مرضى نفسيين معقدين لهم حسابات أخرى في حياتهم غير حسابات المجتمع، لا يستطيعون التأقلم مع المحيطين، ولا يستطيع المحيطون التعامل معهم، وينتهي الأمر بنبذهم بين الناس ((مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ)).
أما محاولة إظهار أهل الدعوة بصورة الحثالة الشرذمة الفقيرة الجاهلة ذات المستوى التعليمي والمجتمعي المتدني، فقام بها قوم نوح عليه السلام: ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)) [هود: 27].
والتي تمثلت في عصرنا في إظهار أبناء التيار الإسلامي فشلة في التعليم، ليس لهم طريق سوى بيع السواك والمسك والجوارب أمام المساجد.
بينما فوجئ أهل الجاهلية أنفسهم بانضمام شباب من أبناء الطبقات الراقية ذات التعليم الجامعي العالي إلى صفوف المسلمين؛ ليبين الله بذلك خزى أهل الجاهلية، ويكشف غباءها للجميع.
الخاتمة..
هذه صور متعددة لردود أفعال الجاهلية مع أهل الدعوة والتعامل معهم بيَّنها القرآن كنماذج تعرض لها الأنبياء، لكنها ممتدة معنا في الجاهلية الحديثة، لتكون ردود أفعال الأنبياء وثباتهم أمام تلك المحاولات نبراسًا لمن يأتي من بعدهم من أجيال المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رحم الله والديكم ونفع بكم