By / 10 فبراير، 2022

مهارة إسقاط الخصوم – الثورة الفرنسية نموذجاً (2)

ثالثاً – حشد فصائل المعارضة تحت شعاراتٍ فضفاضة تتسعُ للجميع:

في مقابل تفكيك النظام، وحّد الثوار صفوفهم، واستطاعوا خلق أرضية وطنية مشتركة تقف عليها جميع الأحزاب السياسية على ما بينها من تباين واختلاف، فانضم إلى الثورة النبلاء الليبراليين أمثال “ماركيز دي لافاييت” و”ماركيز دي كوندرسي”.. ورجال الدين المحرومين من أموال الأبرشيات والأديرة، أمثال الكاهن “إيمانويل جوزيف سياس” صاحب رسالة “ما هي الطبقة الثالثة؟“.. والملكيين الدستوريين الذين يريدون الحفاظ على الملكية في ظل سيادة الدستور، أمثال “كونت دي ميرابوا”..  والجمهوريين المُعادين للملكية، وجمعية أصدقاء الدستور، وأتباع نادي اليعاقبة من أصدقاء الحرية والمساواة، أمثال “دانتون” و”كاميل” و “روبسبير” تم صهر هذا الخليط بذكاءٍ ونجاح وحشده صفاً واحداً في مواجهة النظام الملكي وأنصاره. 

وليس أدل على تباين هذه التيارات واختلافها في الآراء والقناعات من أنهم حين اختلفوا في مسار الثورة قطعوا رقاب بعضهم البعض، وقدموا خصومهم – شركاءهم في الثورة – لمحاكماتٍ صورية انتهت بهم إلى المقصلة، ولكن كان هذا بعد نجاح الثورة، وبعد أن سبقهم إلى المقصلة عنـقُ لويس السادس عشر.

 

رابعاً – استغلال سـفاهة النظام الحاكم وحماقاته:

أجمع مؤرخو الثورة الفرنسية على تبذير البلاط والوزراء، فطبقة النبلاء العالية كانت تُكلف البلاد غالياً، ففي عام 1780(قبل الثورة بتسعة أعوام) كانت نفقات العائلة الملكية 12 مليون ليرة في السنة، وتطلب ﺸراء ﻗﺼر “دي راﻤﺒوﻴﻪ” للملك ﻋﺸرة ﻤﻼﻴﻴن ﻟﻴرة، وتطلب شراء ﻗﺼر “ﺴﺎن ﮐﻟو” للملكة ﺴﺘﺔ ﻤﻼﻴﻴن ليرة، وكان الملك قد أعطى ما يقارب 14 مليون ليرة للكونت “دي بروفانس”، وما يقارب 16 مليون ليرة للكونت “دارتوا”، وكان “آل بولينياك” يقبضون من الخزينة منحاً واعانات حوالي 500 ألف ثم 700 ألف ليرة في السنة، وبلغت نفقات اشتراك فرنسا في حرب الاستقلال الأمريكية اثنين مليار ليرة، وبسبب هذه السياسة الرعناء وصل عجز الميزانية إلى درجة خطيرة، حيث بلغتِ النفقات في ميزانية عام 1788م (وهو العام السابق للثورة) 629 مليون ليرة، وبلغ الدخل إلى 503 ملايين فقط، فبلغ العجز 126 مليون ليرة، وتوقع أهلُ الاقتصاد أن تصلَ ديون (هذا العام فقط) 129 مليون ليرة.

وكانت هذه المخازي مادة إعلامية دسمة تتلقفها أفواه الثوار وينشرونها بين الناس، فيؤلبون الشعب ويزيدون من سخطه وغضبه، ويكسبونه إلى صفوف الثورة.

خامساً – التمسك بالمسار الثوري والإصرار عليه:

كانت الثورة الفرنسية في خطٍ متصاعد لا تعرف هدنةً أو تهدئةً حتى حققت أهدافها.

1 – تم دعوة مجلس طبقات الأمة للانعقاد في 5 مايو 1789م للنظر في قضية العجز المالي والديون، وكان نظام التصويت يقوم على أن تجتمع كل طبقة في غرفةٍ منفصلة، ولهذا لم يكن لطبقة العوام (الطبقة الثالثة) أي وزن؛ لأن النسبة ستكون 2:1 لحساب طبقتي النبلاء ورجال الدين.

ولكن لو أُخذ بمبدأ التصويت المشترك لضمنت الطبقة الثالثة أكثرية ساحقة لأنها واثقة من انضمام صغار رجال الدين والنبلاء الليبراليين إلى صفوفها، وكانت هذه القضية موضوع مناقشات مجلس طبقات الأمة والأمة طيلة هذا الشهر.

وفي جلسة 6 مايو 1789 اتخذ ممثلو الطبقة الثالثة لهم لقب نواب الكومون “نواب البلديات” ورفضوا أن يجتمعوا في غرفة خاصة. لقد كانتِ القضية مهمة جداً؛ فإما أن يتنازل النبلاء فتكون نهاية عهد الامتيازات وبداية عهد جديد، وإما أن تعترف الطبقة الثالثة بفشلها فتبقى الأوضاع على ما هي عليه.

وفي 10 يونيو اقترح “إيمانويل سايس” أن يدعوا نواب الطبقتين المتميزَين إلى الانضمام إلى الطبقة الثالثة، ومن رفض منهم يُعتبر غائباً. وبدأتِ المناداة في 12 يونيو وانضم ثلاثة كهنة، ثم زاد العدد إلى 17 واتسعتِ الحركة وخضع النبلاء، وبعد مناقشة دامت يومين أُنجز العمل الثوري العظيم، لقد هَدمتِ الطبقة الثالثة النظام السياسي القديم وخلقت سلطةً جديدةً مستقلة عن الملك.

2 – “قَسم ملعب التنس” 

صمم لويس السادس عشر على المقاومة تحت تأثير الأمراء، وفي 19 يونيو عزم على منع رجال الدين من الاجتماع مع نواب الشعب في قاعة واحدة، فتمّ إغلاق قاعة الاجتماعات بأمر الملك بحُجة إجراء إصلاحات ضرورية. وفي 20 يونيو 1789 وجد نواب الطبقة الثالثة أبواب قاعة الاجتماعات مُغلقة فانتقلوا إلى قاعة ملعب التنس، حيث ترأس الاجتماع العضو “بايي” وأقسموا “ألا ينفضوا حتى يضعوا دستوراً لفرنسا ويرسونه على أسسٍ متينة”.

3 – في جلسة 23 يونيو 1789 أمر الملك الطبقات الثلاث أن تجتمع في غرفة منفصلة، ووافق على المساواة في الضرائب، ولكنه حافظ على العشور والمداخيل وحقوق السادة، وانتهى بتهديد “إن خذلتموني في مثل هذا المشروع وتخليتم عني فسأعمل وحدي لخير شعبي وسيتم التخلي عنكم، وأنا آمركم أن تنفضوا في الحال على أن تحضروا غداً في قاعاتكم المخصصة لطبقاتكم”.. انسحب النبلاء وبعض رجال الدين بينما ظلت الطبقة الثالثة جامدة في مقاعدها، وقد حسم «ميرابو» الموقف لدى نواب الشعب عندما وقف بينهم خطيبا قائلا: «أيها السادة.. إني أعترف لكم بأن الذي سمعتم الآن ربما كان في مصلحة الأمة، ولكني أشك دائما في كل ما تهديه إلينا يد الاستبداد، وأتوجس منه خيفة، فما هذه الدكتاتورية الشائنة؟! إنهم يريدون أن يُكْرِهونا بقوة السلاح على أن نسلك سبيل السعادة الذي يرسمونه لنا، فمن هذا الذي يصدر هذا الأمر؟ إنه وكيلكم! من هذا الذي يضع هذه القوانين؟ إنه وكيلكم أيضا! إنه هو عين الشخص الذي كان ينبغي عليه أن يتلقى الأوامر منكم… إنني أطلب إليكم أن تكونوا عند حد القسم الذي أقسمتموه. إن هذا القسم يمنعكم أن تنفضوا حتى تضعوا لهذه الأمة دستورا». كان من الطبيعي أن تنتشر روح الحماسة بعد سماع هذه الخطبة، لذلك عندما جاء الماركيز بريزيه كبير أمناء القصر يطالبهم بتنفيذ أوامر الملك، رد عليه “جان سيلفان بايي” (عالم فلكي وأحد ممثلي نواب الشعب) قائلا: «لا يمكن للأمة المجتمعة هنا أن تُصدر إليها أوامر». وعلق الأب “سييس” قائلا: «أيها السادة إنكم اليوم كما كنتم بالأمس، لقد اجتمعنا على أن نحصل للشعب الفرنسي على حقوقه، فلنمض في مباحثاتنا». وهنا أعلن المجتمعون بطلان الجلسة التي ترأسها الملك واعتبروا كأن قراراتها لم تكن. وقبل أن يرحل كبير الأمناء حاملا جواب البرجوازية وقف «ميرابو» قائلا مقولته المشهورة: «اذهب يا سيدي، وبلغ مولاك أننا لن نغادر هذا المكان إلا على أسنة الحراب». وما كاد «ميرابو» يتمم كلمته هذه حتى صاح النواب في صوت واحد: «نعم هذه هي إرادة الجمعية». واقترح «ميرابو» على الأعضاء التصويت على قرار يعطي نواب الشعب حصانة ضد المحاكمة، وهو ما وافق عليه الأعضاء لتتحول «الجمعية الوطنية» إلى سلطة رسمية في فرنسا بدون الرجوع إلى الملك.

 

 

 

 


Be the first to write a comment.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *