كانت الثورة الفرنسية بحق شهاباً من نار قوّض النظام القديم في أوربا، وقبساً من نور أضاء للباحثين عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان طريقَهم، والدارس لتاريخ الثورة الفرنسية يجد ما يلي:
أولاً – الثورة الفرنسية أشعلها وقادها الشباب.
فلو بحثتَ في أسماء قادة الثورة التي كانت أشبه ببركان غير وجه أوربا والعالم لوجدتَ أن كلَّ قادتها كانوا في ريعان الشباب.. قامتِ الثورة سنة 1789
- «الكونت دي ميرابو» خطيب الثورة من مواليد مارس 1749 (40 سنة).
- «جورج دانتون» أبرز زعماء الثورة الفرنسية من مواليد 1759 (30 سنة).
- «كاميل ديمولان» أجرأ زعماء الثورة الفرنسية، ورفيق دانتون من مواليد 1760 (29 سنة).
- «ماكسيم روبسبير» أشد زعماء الثورة الفرنسية تطرفاً من مواليد 1758 (31 سنة).
- «دي سانت جاست» من أشد زعماء الثورة تطرفاً، ورفيق روبسبير من مواليد 1767 (22 سنة).
- «جان بول مارا» أحد أهم مفكري وقادة الثورة الفرنسية الأكثر تطرفاً من مواليد 1743 (46 سنة).
- «إيمانويل جوزيف سياس» صاحب رسالة “ما هي الطبقة الثالثة؟” والتي اعتبرت البيان الرسمي للثورة من مواليد 1748(41 سنة).
هؤلاء الشباب لم يُشعلوا الثورة ثم سلَّموا قيادتها للشيوخ والعجَزة ومن أصابهم الخَرف، بل أشعلوا الثورة وتولوا قيادتها، وسـيَّروا دفتها، وتحملوا مسؤوليتها، وساروا بها حتى قطعوا رأس الملك.
ثانياً – تفكيك النظام قبل مواجهته:
كان المجتمع الفرنسي منقسماً إلى طبقات، طبقة النبلاء والأمراء، وطبقة رجال الدين “الإكليروس” وطبقة العوام. وعمل قادة الثورة بذكاء فريد على تفكيك النظام الملكي واستقطاب ما يقدرون عليه من أفراد الطبقتين المتميزتين على النحو التالي:
1 – طبقة النبلاء:
كان عدد النبلاء يُقدر بـ 350 ألف شخص، حوالي 1.5 بالمئة من سكان البلاد، ولكن الـ 1.5 بالمئة هؤلاء كانوا يؤلفون الطبقة المسيطرة في المجتمع التي تتمتع بكافة الحقوق والامتيازات، منها: حق حمل السلاح، حق الصيد، مقعد خاص في الكنيسة، الرتب العالية في الجيش، الوظائف العليا في القضاء، حق جمع الإتاوات من الشعب، ومنهم طبقة نبلاء البلاط المقيمون في العاصمة الإدارية حول الملك يحيون حياة البذخ، والإسراف، والحفلات، والأعياد.
وكان حظ نبلاء الأقاليم أقل إشراقاً، فنبلاء الأرياف يعيشون حياةَ فقرٍ في قصورهم المُهدمة وسط الفلاحين الذين يجنون منهم إتاواتٍ هزيلة، فاقتربتْ تلك الفئة من فئات الشعب واعتنقت أفكاراً ليبرالية، حين جمع بينهم الكره، بل والحسد لنبلاء البلاط المُنَعمين في العاصمة الإدارية.
كان من السهل ضم هؤلاء النبلاء الليبراليين إلى صفوف الثورة بشرط أن تصلهم رسائل طمأنة على مصالحهم وأموالهم، وهذا ما يجب أن نتعلمَه.
أن خطابُ الجيش كـ (مؤسسة) أو مهاجمة ضباط الجيش كـ (طائفة) من الأخطاء الكبيرة التي تؤخرُ قيامَ الثورة، ولا تهدمُ الجيشَ أو تُحيّده، بل تَحمله على التكتل والعِناد، بل يجب مخاطبة ضباط الجيش كـ (أفراد)، فنقول: أيها الضابط وأيها الجندي وإن كانوا ألدَّ أعداء الثورة.
الشخصية العسكرية تحتاج إلى فقهٍ كبير في التعامل معها، فقدِ اعتادتْ على الكبرياء والاستعلاء والأنفة، (وإن كانتْ تدعيه أو تتظاهرُ به) ولذلك تحتاج إلى الاهتمام والاحترام الزائد والتقديم. ولقد كان رسولُنا صلى الله عليه وسلم يعرفُ هذا ويراعيه، في عُمـرة القضاء سأل الوليدَ بن الوليد عن أخيه خالد بن الوليد، فكتب الوليدُ بن الوليد إلى خالد بن الوليد يقول:
(… وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْكَ، وَقَالَ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ” مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَحَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْـنَـاهُ عَلَى غَيْرِهِ “.. فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَتكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ).. فنشط خالد رضي الله عنه للخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزادَه رغبةً في الإسلام سُــؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، واهتمامه به، وانتبه أخي إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” وَلَقَدَّمْـنَـاهُ عَلَى غَيْرِهِ “.. أهـ الحافظ ابنُ كثير، البداية والنهاية جـ 4 صفحة 472..
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُخاطب جيشَ قريش كـ (مؤسسة) أو يهاجمهم كـ (طائفة) بل خاطبهم كـ (أفراد)، وسأل عن خالد بن الوليد كـ (فرد وقائد عسكري)..
أثناء الثورة الإيرانية 1979م كان جيش الشاه محمد رضا بهلوي يبلغ 700 ألف جندي وضابط، وكان لابد من تحييدِه، كانت الجماعات الإسلامية مثل “مجاهدي خلق” و “فدائي خلق” تقترحُ المقاومة المسلحة، وكان “آية الله الخميني” يتركهم يَعرضون وجهةَ نظرهم ثم يقول: (لا.. لا يمكنكم مواجهةَ الجيش، ولا يُمكنكم محاربةَ سلاحِه بأي سلاحٍ تَحصلون عليه، الطريقة الوحيدة لمحاربة الجيش هي نزعُ سلاحِه).. وكانتْ خطةُ نزع سلاح الجيش غير مفهومة للثوار حتى بدأ الخميني بدايةَ عام 1977م يُوجه رسائلَه الإعلامية إلى ضباط الجيش كـ (أفراد) فيقول: ينبغي عليكم ألا تخدموا الشاه، فالشاه هو الشيطان، وأنتم جنودُ الله “المستضعفين”، ينبغي عليكم ألا تُطلقوا النارَ على إخوانكم المسلمين، لأنّ كلّ رصاصةٍ تُصيبُ قلبَ مسلمٍ هي أيضاً رصاصةٌ تُصيبُ قلبَ القرآن، يجب أن تعودوا إلى قراكم وأسركم وأراضيكم، يجب أن تعودوا إلى المسجد.. إلى الله).. ومن منتصف عام 1977م بدأتِ التقاريرُ تُسجلُ هروبَ الضباط والجنود من الخدمة العسكرية. أهـ محمد حسنين هيكل، مدافع آية الله صفحة 191.
2 – طبقة رجال الدين الرسميين (الإكليروس):
كان عدد رجال الكنيسة في فرنسا حوالي 120 ألف شخص، ورؤساؤها ثلاثة آلاف شخص فقط، وكلهم عملياً من أُسر نبيلة، من أرفع الأسر النبيلة. وهم عليةُ رجال الدين، وتضم الأساقفة والكهنة ورهبان الصوامع والأديرة، وهم يتصرفون فيها بثروة الكنيسة الضخمة، وكان يتمتع بامتيازاتٍ مُهمة سياسية وقضائية وضرائبية حيث تملكتِ الأديرة مساحات زراعية واسعة ومباني عديدة درّت عليها الأموال، بالإضافة إلى ضريبة العُشر على غلات الأرض وقطعان الماشية. ولذلك ربطتْ هذه الطبقة مصيرها بمصير النظام، وكانت من أشد المدافعين عن المَلكية وأخلصهم.
عاش رجال الدين حياة البذخ والتبذير كشأن الأباطرة والأمراء وأهملوا واجباتهم الدينية، ومما يدل على ثراء هذه الطبقة الفاحش قصة “قلادة الماس” والتي أهداها الكاردينال “دي روهان” للملكة ماري انطوانيت، وقد بلغ ثمن هذه الهدية مليون ونصف ليرة (بأسعار سنة 1786) قبل نشوب الثورة بثلاث سنوات!!
في المقابل كان هناك صغار الكهنة والرهبان الذين لم ينالوا حظاً في أموال الكنيسة وعوائدها، وكان من السهل على هؤلاء الانضمام إلى الثوار وتأييد مطالب الثورة، بشرط أن يتوفر لدى قادة الثورة الذكاء السياسي الذي يُمكنهم من حشد هؤلاء الحاقدين على النظام ورصِّ صفوفهم وكسب أصواتهم لتأييد مطالب الثوار، وهذا ما كان.
3 – الطبقة الثالثة (العوام والهَوام):
كان يُطلق عليهم الطبقة الثالثة “مثل الدرجة الثالثة والمواطن “الكحيان” وبلغَ عدد هذه الطبقة 24 مليون يمثلون 96 بالمئة من سكان البلاد، حيث شملت أصحاب المهن الحُرة، والجنود والعساكر والبيادق، وصغار القضاة، والمحامين، والأساتذة، والأطباء والجراحين، والحِرفيين، وجيش العاطلين. وهؤلاء كانوا وقودَ الثورة وقادتها، والداعين لها، والمُستفيدين منها.
ويصطف في معسكر هؤلاء كبار التجار، حيث كانت فرنسا تحتل المقام الأول في تجارة الشرق، ومن عام 1716 إلى عام قيام الثورة 1789زادتِ التجارة أربعة أضعاف، ومن هؤلاء التجار خرج زعماء الحزب المنادي بالدستور الناقم على تردي الأوضاع السياسية الراهنة.
أقول: هذه الشرائح هي التي يجب أن نتوجه لها بالخطاب الثوري، حتى يترسخ في أذهانهم ألا خلاص لهم إلا بالتخلص من هذا النظام، وأن ضريبة الثورة والجهاد أهون من ضريبة الخضوع لأوامره والاستكانة لمفاسده.
Be the first to write a comment.