لقد كانت بيعة العقبة الثانية أو الكبرى ثمرة من ثمرات الأساليب المناسبة، التي استخدمها الرسول صلى الله عليه و سلم ضد مكر قريش، والتي احتوت على مواقف أمنية عظيمة وكانت في غاية السرية والكتمان.
بيعة العقبة الثانية هي بيعة أهل يثرب للرسول صلى الله عليه وسلم في العام 13 من البعثة، وكان وفد المبايعين يتكون من 73 رجلاً وامرأتان، وكانت بيعتهم له على حمايته والدفاع عنه وعن الإسلام، كما يحمون عائلاتهم وأنفسهم، مقابل أن تكون لهم الجنة.
وسنقف في هذا الموضوع على بعض جوانب الحذر والحيطة التي تخللت بيعة العقبة الكبرى:
1- الاتفاق المسبق على زمان ومكان البيعة:
حيث واعدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجتمعوا أوسط أيام التشريق في الشعب، الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع ليلاً، وهذا الاختيار يؤكد مدى اهتمام النبي صلى الله عليه و سلم بالجانب الأمني، وإحاطة تحركاته بالسرية والكتمان، ففي هذا الوقت تقل رقابة قريش، وتهدأ الحركة، وتندر الرؤية، مما يجعل فرصة الانكشاف أمرًا صعباً.
2- الأمر بكتمان الخبر:
طلب الرسول صلى الله عليه و سلم من الأنصار كتمان الخبر عن المشركين، فذلك أمر تقضيه الظروف الأمنية، حتى لا يتسرب خبر البيعة إلى قريش، فتقوم بإحباطها، وقد نفذ الأنصار هذا الطلب، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا) وقد ظهرت أهمية ذلك عندما جاءت قريش لتتقصى الخبر من صبيحة البيعة، فتولى الرد عليها مشركو الأنصار، وأقسموا على نفي حدوث البيعة، ولولا هذا الكتمان لانكشف أمر البيعة والمبايعين.
3- الاحتياط في الحضور إلى مكان البيعة :
وضع الرسول صلى الله عليه و سلم خطة مأمونة دقيقة للحضور إلى مكان البيعة، فطلب من الأنصار أن يأتوا أفراداً لا جماعة، حتى يجتمعوا جميعاً في العقبة، وأن يكون ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، وأمرهم ألا ينبهوا نائماً ولا ينتظروا غائباً وقد طبق الأنصار هذه الخطة تماماً، يقول كعب: (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم نتسلل مستخفين تسلل القطا) ويتجلى لنا من تلك الخطة وتطبيقها الاحتياط الأمني المحكم في كل جوانبها، فكونهم يأتون بعد ثلث الليل، فذلك وقت يكون الناس فيه قد استثقلوا في النوم، ولا يشعرون بحركة المسلمين، بالإضافة إلى أن هذا الوقت يمكن المجتمعين من إنجاز أمر البيعة، وهو وقت مريح.
أما تسللهم أفراداً، فهو زيادة في الحيطة والحذر، مما يجعل أمر اكتشافهم عسيراً بخــلاف ما لو خرجـوا جماعـات.
أما أمره صلى الله عليه و سلم بعدم إيقاظ النائم أو انتظار الغائب، فهو تحسب من أن يؤدي إيقاظ النائم إلى انتباه المشركين، هذا إلى جانب أن هذا الأمر يجعل كل المسلمين في حالة تأهب، فيعمل كل فرد منهم على ألا يتسلل النوم إلى عينيه مخافة أن يفوته ذاك الفضل.
4- التصرف السليم حيال الطوارئ :
حين صرخ الشيطان بأعلى صوته من رأس العقبة قائلاً: (يا أهل الجباجب -المنازل- هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم)، حينها أمر الرسول صلى الله عليه و سلم الأنصار بالانصراف والرجوع إلى رحالهم.
هذا الأمر بالانصراف فور سماع صوت الشيطان، الذي كشف أمر الاجتماع، يعد تصرفاً أمنياً، اقتضته ظروف وملابسات الحدث، لأن قريشاً غالباً ما تكون بعد سماعه في حالة استنفار تام، وقد تقوم بمسح شامل للمنطقة، لتتأكد من هذه المعلومة.. وحتى يفوت الرسول صلى الله عليه و سلم الفرصة على قريش أمر أصحابه بالانصراف، فانصرفوا إلى رحالهم، وأصبحوا مع قومهم.
5- الأمر بانتخاب النقباء:
إن طلب الرسول صلى الله عليه و سلم من الأنصار انتخاب نقباء من بينهم، يدل على يقظة وفطنة المصطفى صلى الله عليه و سلم، فهو لا يريد أن يفرض عليهم أشخاصاً من غير شوراهم، كما أنه لم يسبق له التعرف عليهم حتى يعلم معادنهم، وربما حدد أشخاصاً كلهم من الخزرج أو الأوس فيؤدي ذلك إلى عدم رضاء طرف على آخر، ولتفادي تلك الاحتمالات وغيرها، ترك الرسول صلى الله عليه و سلم أمر اختيار النقباء للأنصار.
6- توفر الحس الأمني لدى بعض من شهدوا البيعة:
تجلى الحس الأمني لدى العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري وأسعد بن زرارة، في تأكيدهما على خطورة البيعة على قومهم، فقال العباس بن عبادة: (إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً، أسلمتموه، فمن الآن)، فأجابوه : (فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف)
وقال أسعد قبيل البيعة: رويداً يا أهل يثرب… وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما تصبرون على ذلك فخذوه، وإما تخافون على أنفسكم خيفة فذروه.
وهذا مما يبرز مدى حرص العباس وأسعد على الاحتياط لأمر الدعوة، وقائدها، فأرادا بذلك أن يؤكدا على خطورة الأمر، بإظهار نتائج تلك البيعة ومتطلباتها، ابتداءً، حتى يكون أهل البيعة على علم تام بما قد يحدث لهم، قبل أن تفاجئهم الأحداث ويتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وحينها لا يمكن تصور ما سيحدث للدعوة وقائدها، وتفاديًا لذلك حرصوا على التحقق من استعداد قومهم للتضحيـة في سبيل الله.
Be the first to write a comment.