By / 12 مايو، 2022

الوطنية الأليفة

للمستشار والمؤرخ طارق البشري -رحمه الله- فصل طريفٌ جدا في كتابه “دراسات في الديمقراطية المصرية” يتحدث فيه عن نجاح الإنجليز في استمرار حكمهم لمصر 70 سنة!
موضوع هذا الفصل الأول الذي يهمنا الآن هو أن الإنجليز اتخذوا عددا من الخطوات التي توحي للجميع بأن وجودهم في مصر مؤقت، وأنهم لا بد راحلون!
وهذا التفصيل يمكن أن تراه بشكل أكثر تفصيلا في كتاب “مصر الحديثة” الذي كتبه اللورد كرومر (وهو أطول حاكم إنجليزي لمصر، أكثر من عشرين سنة)، وفي تقرير اللورد دوفرين (أول من وضع برنامج الحكم الإنجليزي في مصر)، وفي المصادر الأخرى التفصيلية التي ركزت على هذه الفترة مثل “مصر للمصريين” لسليم النقاش، وغيرها.
حين تغوص في هذه الفترة تشعر أن الإنجليز صادقون في الرحيل، ويبحثون بإخلاص عن طريق للخروج، ويُصَرِّحون بتكرار وإلحاح عن تمنياتهم السعيدة للشعب المصري الرائع بالرغد الدائم.
ما هذه الخطوات التي اتخذها الإنجليز:
1. التصريحات المتكررة بأن البقاء في مصر مؤقت ولمهمة محددة .. شيء يذكرك بقول #السيسي_عدو_الله (والله والله والله، ما لنا أي رغبة ولا إرادة في حكم مسر)
2. توليد المسائل والقضايا التي تجعلها إنجلترا مؤشرا على استقرار مصر وإمكانية حكم المصريين أنفسهم بأنفسهم، ففي كل مرة يطرح الإنجليز موضوعات تستحق البحث والفحص والتمحيص، لكي نصل فيها إلى حل.. شيء يذكرك بما يفعله #السيسي من دعوات الصبر عليه سنتين وسنة وستة أشهر وعاما وعامين.. وهتشوفوا مسر جديدة
3. إرسال الرسائل وعقد المؤتمرات وجلسات الحوار والدخول في جولات متعددة من المفاوضات لتنظيم الجلاء عن مصر! (سأتوقف هنا عن الإسقاط.. وعليك أن تلاحظ التشابهات بين الواقع والماضي بنفسك)
4. إبقاء الجهاز الإداري على ما هو عليه، بل تمصير الوظائف التي لم تكن مصرية.. فقط وضع الإنجليز في كل وزارة مستشار، مجرد مستشار! يا سيدي المواطن المصري المستقل.. ولكن: من كان يستطيع أن يخالف استشارة المستشار فليرنا نفسه!!
بل إن الإنجليز في بداية الاحتلال اعتمدوا على “العناصر المعتدلة” المشاركة في ثورة عرابي، التي جاءوا أساسا لإخمادها، فإذا برئيس حكومة الثورة العرابية، محمد شريف باشا، الدستوري القانوني المعتدل، يتولى رئاسة الحكومة بعد الاحتلال مباشرة.. وبالطبع جرى التخلص منه بعدها بسنوات قليلة ليضعوا بدلا منه نوبار باشا، ذلك الفاسد المكروه عدو الشعب..
لكن الشاهد هنا، أن رئاسة الوزراء، والوزراء، لم يكونوا إلا من المصريين.. أولئك الناضجين المعتدلين الوسطيين الوطنيين!!.. بينما طاردت سلطة الاحتلال بالقتل والنفي والتعذيب أولئك الإرهابيين المتطرفين المتعصبيين الذين اتبعوا عرابي فكادوا يخربون البلد، التي “كشفت ظهرها وعرت كتفها” لولا أن أنقذها الله بنا نحن الإنجليز!!
وهكذا، سيدي المواطن المعاصر، فإن الذي اعتمد عليه الإنجليز في احتلالهم البلد كانوا هم “الوطنيون المعتدلون” و”المواطنون الشرفاء”.. وكل ما ارتكبه الإنجليز من إعدامات ومحاكمات وتعذيب، إنما جرى تنفيذه عبر جهاز الحكم الوطني المصري، وبالقانون المصري، وبوكلاء النيابة المصريين، وبالقضاة المصريين، وبالعساكر المصريين، وبالشرطة المصرية!!
ومن بعد ما كان جيش الاحتلال الإنجليزي خمسين ألفا، اكتفى الإنجليز ببقاء ثلاثة آلاف فقط! فقد كفاهم الوطنيون المعتدلون مؤونة حرب الإرهاب ومطاردة الإرهابيين!!
يسمي طارق البشري هذه الإجراءات بـ “تخدير الضمير الوطني”، وفي تقديري أنه أخطأ هنا، وهو خطأ مفهوم منه، فإن المستشار والمؤرخ الفاضل كان رجلا وطنيا تشكل وعيه وذهنه من لحظة ثورة 1919، اللحظة التي التبست فيها العلمانية بالوطنية
ليس هذا تخديرا للضمير الوطني، بقدر ما هو خلل عظيم في العقيدة أولا ثم في التفكير ثانيا.. فمن كان يرجو خيرا من عدو الله وعدو الدين فهو فاقد للبوصلة الإيمانية!
هؤلاء الوطنيون المعتدلون الناضجون، كانوا يتصورون أنفسهم ساسة واقعيين يفهمون السياسة ويناورون في المساحات المتاحة وينتهزون الفرص الممكنة (والسياسة فن الممكن كما تحفظ عزيزي القارئ) ويُحرجون الخصم، ومن فمه يدينونه، وبتصريحاته يفضحونه ويضغطون عليه في المحافل الدولية وأمام الرأي العام العالمي!!
هذه الطبقة، هي التي يسميها تميم البرغوثي بـ “الوطنية الأليفة”.. إنهم أولئك الوطنيون الذين كان لهم نصيب الأسد في استمرار الاحتلال الإنجليزي لمصر أكثر من سبعين سنة!!!
والآن:
لماذا كل هذه الثرثرة التاريخية؟
والإجابة:
التاريخ ذو شجون، ونحن الآن في شجون الحوار الوطني والمصالحة الوطنية ولجنة العفو الرئاسي.. وإني أرى الأفق قد امتلأ بالوطنية الأليفة، وقد اجتمعت كلمتهم على إقصاء الإرهابيين المتشددين

Be the first to write a comment.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *